دكتور عماد عبد اللطيف – أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب

مشاركة

بلاغة الجمهور

بلاغة الجمهور .. قصة النشأة

في عام 2005، نشر البلاغي المصري الدكتور عماد عبد اللطيف دراسة بعنوان “البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته” قدم فيها مقترحا لتأسيس توجه بلاغي أطلق عليه حينها “بلاغة المخاطب” والذي تطور فيما بعد ليُعرف باسم “بلاغة الجمهور”. ويحكي الدكتور عماد عبد اللطيف كيف نشأت فكرة “بلاغة الجمهور” فيقول:

“في عام 2003، سجلتُ أطروحة دكتوراه – في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة – في البلاغة السياسية عند السادات، مدفوعًا بحلم مثالي؛ هو إنقاذ بعض البشر من سطوة اللغة المضلِّلة، ومن فخاخ الأكاذيب. تصورتُ حينها، وما زلتُ، أن البحث العلمي نضالٌ، وأن المعرفةَ سلاح تحرير. وآمنتُ، وما زلتُ، أن الاستبداد والجهل هما الداء، وأن المعرفة لكليهما دواء. وأيقنتُ أن أسمَى ما يمكن فعله هو أن أكرّس ما تبقى من عمري من أجل خدمة الضعفاء المخدوعين. كان اختيار السادات بالنسبة إليَّ مثاليًا؛ فالرجل الذي انحاز بلا حساب لمصالح الأغنياء؛ كان أكثر مؤيديه من الفقراء، وكان هذا بحاجة إلى كثيرٍ من الفهم والتفسير.

بعد أقل من عام ونصف من معايشة خطب السادات، ولِدَت فكرة بلاغة الجمهور من رحم الدهشة والتساؤل. فأثناء استماعي لتسجيلات خطب السادات، انتابتني تساؤلات لا تنتهي عن علّة تصفيق الجمهور لعبارات أو أقوال ظننتُ أنها تستدعي استجابات أبعد ما تكون عن التصفيق! وفكرتُ حينها في علم البلاغة بوصفه أداة لخدمة ذوي السلطة، يمكِّنهم من السيطرة على استجابة الجماهير، يتساوى في ذلك من يمتلك سلطة القهر، أو سلطة التلاعب والتضليل. وفكرتُ في إمكانية تأسيس “بلاغة جديدة”، تُقدِّم مسارًا مضادًا للبلاغة السائدة، علم جديد يخدم المخاطَبين/الجمهور، يمكِّنهم من التمييز بين خطابات تلاعبية وأخرى تحررية، ويمكِّنهم من السيطرة على استجاباتهم؛ لتكون في خدمة قضاياهم النبيلة”.

ويشكل “بلاغة الجمهور”، في الوقت الراهن، واحدا من التوجهات الأكثر جذبا لاهتمام الباحثين في العالم العربي. ويضم “بلاغة الجمهور”، بوصفه حقلا معرفيا، كمّا غير محدود من مادة البحث، وعددا لا نهائيا من موضوعاته. يشتمل هذا الحقل على كل الظواهر المرتبطة بالإقناع والتأثير في الاستجابات التي ينتجها الجمهور في فضاءات عمومية. ويمثل الدور المتصاعد للجماهير في الفضاء العام أحد أهم ملامح العصر الذي نحيا فيه. وقد أطلق الدكتور عبد اللطيف في أحد كتبه تسمية “عصر استجابات الجماهير”؛ للإشارة إلى إحدى أهم السمات التي يرى أنها تميز عالمنا الراهن. بالطبع، تمثل فضاءات تداول خطابات الجمهور أحد أوجه قوة الجمهور، وقوة بلاغته، لكن انفتاح فضاءات التداول سوف يظل محدود التأثير، لو لم يتطور الوعي النقدي للمواطن العادي الذي يشكل المكون الأساس الجمهور، وهذا يؤكد، وفقا للدكتور عبد اللطيف، “محورية دور التعليم، والتثقيف، والتوعية، فبدونها سوف يُعيد الجمهور إنتاج بلاغات القهر، والتسلط، والخرافة، والانقسام”. وهنا تظهر أهمية أو ضرورة وجود بلاغة الجمهور.

ويمكن وصف “بلاغة الجمهور” بأنها فرع من فروع العلم يدرس العلاقات بین بناء الخطاب وأدائه من ناحیة، واستجابات الجمھور الذى يتلقاه من ناحیة أخرى. تھدف بلاغة الجمھور إلى تمكین الجمھور من إنتاج استجابات بلیغة، يستطیع من خلالھا كشف أشكال إساءة استعمال الكلام مثل العنصرية، والكراھیة، والتلاعب، والتمییز، والقھر، والإخضاع، ومقاومة ھذه الإساءات، بما يدفع المتكلمین، أفرادا أو مؤسسات، إلى مراقبة خطاباتھم، وترشیدھا، وجعلھا أكثر استقامة ونبلا وإنسانیة. غاية بلاغة الجمھور ھى إكساب الأفراد مھارات تجعلھم فاعلین فى التواصل الجماھیرى، على أمل أن يؤدى ذلك إلى تحقیق تواصل يتسم بالإنسانیة والمصداقیة والنزاھة. لتحقیق ھذه الغاية تقدم بلاغة الجمھور معارف نظرية، وأدوات تحلیل، وإرشادات تمكن الجمھور من إنتاج استجابات بلیغة، تدعم النبیل من الخطابات، وتقاوم المتلاعب منھا.

وتهتم بلاغة الجمهور بدراسة استجابات الجمهور في الفضاء العام من منظور بلاغي. هذه الاستجابات قد تكون لغوية مثل تعليقات المشاهدين على مقطع يوتيوب، أو تعليق القراء على خبر في صحيفة إلكترونية. وقد تكون غير لغوية مثل التصفيق، والهتاف، والتشكيلات الرمزية للحشود في الفضاء العام، وغيرها. هذه المادة البحثية تتسم بالبكارة، والضخامة، والثراء العلاماتي. وهي تشكل موضوعًا مثيرًا للبحث البلاغي. وقد حرص الدكتور عبد اللطيف على تحديد الأسس النظرية، والمنهجية، لبلاغة الجمهور في المقال المشار إليه سابقا، “بلاغة المخاطَب: البلاغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته” المنشور عام 2005. ثم كان كتاب “لماذا يصفق المصريون؟ بلاغة التلاعب بالجماهير في السياسة والفن”، الصادر عن دار العين بالقاهرة في 2009، نقطة تحول في مشروع بلاغة الجمهور؛ فقد خُصِّص بأكمله لهذا المشروع. وقد قدم فيه الدكتور عبد اللطيف تحليلا لظاهرة التصفيق في الخطاب العام، وفي مدونة من الخطب السياسية المعاصرة على وجه الخصوص. وخلال السنوات الخمس الأخيرة، اتسعت دائرة الاشتغال في بلاغة الجمهور، ونشر باحثون من المغرب، والجزائر، والعراق، ومصر، دراسات فيها وعنها. ومن المأمول أن تشهد السنوات المقبلة ازدهارًا متزايدًا؛ لما بات يمثله الجمهور من أهمية في الفضاء العام في العالم العربي.

وهكذا، تسعى بلاغة الجمهور إلى نقل مركز البلاغة من المتكلّم إلى المخاطَب، ومن ثمَّ، فتح المجال أمام إنجاز وظائف أخلاقية لعلم البلاغة؛ تربط البلاغة بالتحرر من التلاعب، والعنصرية، والتمييز، والهيمنة، والاستبداد. لتصبح البلاغة معرفة تحررية بحق، تُعطي قوة للطرف الأضعف (المخاطَب)، وتُقلل من سطوة الأقوى (المتكلم). إن بلاغة الجمهور من هذه الزاوية أداة لإحداث التوازن بين قوة المتكلّمين وقوة المخاطَبين. وإذا أردنا معادلا قصصيا أو حكائيا لما تُحاول بلاغة الجمهور إنجازه من وظائف فإنني أستحضر شخصية اللص الشريف، الذي يسلب الأغنياء بعضًا من ثرواتهم التي نهبوها، ليُعيدها إلى الفقراء المنهوبين. كلّ غايته إرجاع الحقوق إلى أصحابها، وما بلاغة الجمهور إلا الأدوات التي تمكن المخاطَبين/الجمهور – إن هم أتقنوها – من استعادة حقوقهم بأنفسهم ولأنفسهم.